تابع لموضوع القسامة ..
الفصل الثالث : كيفية القسامة وفيما يثبت بها
المبحث الأول : كيفية القسامة
المبحث الثاني : ما يثبت بالقسامة
المبحث الأول : كيفية القسامة
اختلف أهل العلم القائلون بالقسامة فيمن توجه إليه أيمان القسامة ابتداءً ، فذهبت طائفة منهم إلى أنه يبدأ بالمدعين فتوجه إليهم الأيمان . قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعت به ممن أرضى في القسامة ، والذين اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ، أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون . وأضاف قائلاً : وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المُبدّئين بالقسامة أهل الدم [71].
وقال ابن رشد : قال الشافعي وأحمد وداوود بن علي وغيرهم : يبدأ المدعون [72]. وذلك امتثالاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يحلف خمسون رجلاً منكم وتستحقون دم صاحبكم " . وقد ورد في "المغني" : شرعت اليمين في حق المدعين أولاً فيحلفون خمسين يميناً على المدعى عليه أنه قتله وثبت حقهم قبله ، فإن لم يحلفوا استحلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ [73].
أما الأحناف فيرون أن القسامة على أهل المحلة التي وجد فيها القتيل ، يستحلف خمسون رجلاً منهم بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ويغرمون الدية [74].
وإن لم يكن العدد خمسين رجلاً كررّت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يميناً لما روي أن الذين جاءوا إلى عمر – رضي الله عنه – من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلاً منهم ، فحلفوا ثم اختار منهم واحداً فكرّر عليه اليمين ، وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه [75].
ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيداً فيقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فإن اقتصر على لفظة والله ، كفى أو بقول : والله أو بالله أو تالله ، وما زاد على هذا تأكيد ، ويقول لقد قتل فلان بن فلان الفلاني – ويشير إليه- فلاناً ابني أو أخي منفرداً بقتله ما شركه غيره ، وإن كانا اثنين قال منفردين ما شركهما غيرهما ، ثم يقول عمداً أو خطأ [76].
قال الإمام مالك : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلاً خمسين يميناً ، فإن قلّ عددهم أو نكل بعضهم رُدّت الأيمان عليهم ، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ، ولاة الدم ، الذين يجوز لهم العفو عنه ، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم . قال يحي : قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم ، وإن كان واحداً ، فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ولكن الأيمان إذا كان ذلك ، ترد على المدعى عليهم ، فيحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يميناً ، فإن لم يبلغوا خمسين رجلاً ردت الأيمان على من حلف منهم ، فإن لم يوجد أحد إلا الذين ادّعي عليه ، حلف هو خمسين يميناً وبرئ [77].
وقال الإمام الشافعي : فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أن يقسم خمسين يميناً ويستحق نصيبه من الميراث ، وكذلك إذا كان الورثة عدداً كثيراً ونكلوا إلا واحداً [78].
وفي المذهب الحنبلي : فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ. وعقّب ابن قدامة على قول الخرقي : " ولنا : قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم"، أي: يتبرءون منكم ، وفي لفظ قال: "فيحلفون خمسين يميناً ويبرءون دمه" ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغرم اليهود وأنه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان ، ولأن ذلك إعطاء بمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل ، فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرد دعواه كدعوى المال وسائر الحقوق ، ولأن في ذلك جمعاً بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق . قال الإمام الخرقي : فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال [79].
أما إذا نكل المدعى عليه - عليهم - فاختلف الجمهور فيما بينهم على أقوال :
رأي المالكية : قال الباجي : فصل : وقوله فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف حلف وحده خمسين يميناً وبرئ ، وقوله "وبرئ" : يريد برئ من الدم وعليه جلد مائة وسجن عام ، قاله مالك وابن القاسم ، وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف [80].
رأي الشافعية : قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة : " فإذا حلفوا برئوا وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يميناً واستحقوا الدية إن كانت عمداً ، ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها ، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم ، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمداً وعلى عاقلته إن كان خطأ ، لأنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه [81] .
رأي الحنابلة : ذكر ابن قدامة قولين في حبسهم ورجّح أن الدية تلزمهم بالنكول ، قال : "وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا ، وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة . والراجح عند الحنابلة هو الأول ، قال ابن قدامة : ولنا : أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليهم فلم يحبس عليها كسائر الأيمان ، وإذا ثبت هذا ، فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم كالشاهد واليمين ، قال القاضي : "وفداه الإمام من بيت المال ، نصّ عليه أحمد" [82].
رأي الأحناف : قال الإمام السرخسي : " وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصودة هاهنا فيحبسون لإيفائها " [83].
المبحث الثاني : فيما يثبت بالقسامة
اختلف العلماء القائلون بمشروعية القسامة ، فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود ، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يجب بها إلا الدية . غير أنه اتفق القائلون بها على أنه يثبت بها الدية إذا كان القتل خطأً ، ثم اختلفوا بعد ذلك فيما يثبت بها إذا كان القتل عمداً على قولين :
الأول : أنها توجب القود ، وهو قول معظم الحجازيين وبه قال الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه ، والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود ، وهو قول الشافعي في القديم ، وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، قال أبو الزناد : قلنا بها وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان[84].
الثاني : أنها توجب الدية لا القود ، قال النووي نقلاً عن القاضي عياض : وقال الكوفيون والشافعي - رضي الله عنه - في أصح قوليه : لا يجب بها القصاص وإنما تجب بها الدية وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي والحسن بن صالح وروي أيضاً عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - [85].
أدلة الفريق الأول :
1 - حديث سهل بن أبي حثمة في مقتل عبد الله بن سهل له عدة استدلالات :
أ – قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " ، والمراد بالصاحب هنا هو القاتل ، وهذا دليل في أن استحقاق دمه ظاهر في وجوب القصاص منه . قال ابن قدامة : أراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين [86] .
ب- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق : "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته"، وهذا اللفظ "فيدفع برمته" ظاهر في أن أولياء الدم إذا حلفوا خمسين يميناً على رجل معين من اليهود أنه هو الذي قتل قتيلهم "عبد الله بن سهل" دفع إلى أولياء الدم برمته ، أي بالحبل الذي يجعل في عنق القاتل ليقتصوا منه ولا يكاد هذا اللفظ يستعمل في غير ذلك [87].
2 - استدل أيضاً بما رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناده "عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن أباه أبا الزناد قال : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن رجلاً من الأنصار قتل وهو سكران رجلاً ضربه بشوبق - الشوبق : خشبة الخباز- ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا فحلفوا خمسين يميناً وقتلوا وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة ويرونها للذي يأتي به من اللطخ والشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره" [88].
3 - قضاء ابن الزبير بها فقد صحّ عنه أنه أقاد بالقسامة وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد ، روى ذلك عنه سعيد بن المسيب ، أفاد ذلك ابن حزم في المحلى [89] .
4 - إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام للقسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر ، وهذا يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون بالقسامة [90] .
5 - ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك [91] .
أدلة الفريق الثاني :
1 - حديث مقتل عبد الله بن سهل بخيبر ، وفيه : " فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" ، قال الإمام النووي في شرحه لمسلم : " معناه أن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فأما أن يدوا صاحبكم أي يدفعوا إليكم ديته ، وأما أن يعلموا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا فينتقض عهدهم ويصيرون حرباً لنا ، قال : وفيه دليل لمن يقول الواجب بالقسامة الدية دون القصاص" [92].
2 - الحديث الطويل عن أبي قلابة – عمر بن عبد العزيز – في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم", ويرى أبو قلابة أن الذي يثبت بالقسامة هو الدية ، ودليله في ذلك ما يأتي :
أ – أن الشهادة على الغيب ، والحلف على ما ليس للحالف به علم ، فيه شبهة كبيرة ، فلا يشاط بها الدم ، ولا يتصور أن يأمر بها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام[93].
ب – ولحديث : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث :كفر بعد إسلام أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بنفس". فليس فيه أن القسامة مما تحل بها الدماء المعصومة [94].
جـ - ولآن الثابت لدى أبي قلابة في مقتل عبد الله بن سهل هو الدية لا القود ، ومن أجل ذلك كله ندم عبد الملك بن مروان على الحكم بالقود فيها وعاقب الذين أقسموا خمسين يميناً على شخص معين أنه هو القاتل عاقبهم بمحو اسمهم من الديوان وبالنفي من الشام أو إليه[95].
3 - ما رواه أحمد أن قتيلاً وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب [96].
4 - ما رواه الشعبي أن قتيلاً وجد في خربة وادعة همدان فرفع إلى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يميناً ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ثم أغرمهم الدية [97].
5 - حديث سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلاً فقالوا للذين وجدوه عندهم : قتلتم صاحبنا فقالوا ما قتلنا ولا علمنا قاتله فانطلقنا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم قال فقال لهم : تأتوني بالبينة على من قتل هذا قالوا مالنا بينة قال : فيحلفون لكم قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود فكره نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة [98].
6 - ما أخرجه أبو داود بإسناده عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال : "أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه - وسلم فذكروا ذلك له فقال : لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله لم يكن من المسلمين وإنما هم يهود وقد يجترئون على أعظم من هذا ، قال : فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده" [99].
الترجيح :
عند النظر إلى أدلة الفريقين نجد قوة وصراحة أدلة الفريق الأول القائلين بوجوب القود في القسامة . ويعترض على أدلة الفريق الثاني بما يأتي :
1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب". نوقش هذا الدليل بأن الحصر في الأمرين الدية أو الحرب سببه أن أولياء القتيل من الأنصار ادعوا القتل على اليهود بدون تعيين القاتل ولا يمكن في هذه الحال الحكم بالقصاص إذا حلف الأولياء ولكن الذي يمكن هو الحكم بالدية، فإن فرضنا أن الأولياء حلفوا خمسين يميناً أن يهوداً هي التي قتلته فالواجب حينئذ الدية على اليهود وإن فرضنا أنهم حلفوا على واحد معين منهم فالواجب القصاص وبذلك يجمع بين الروايات التي ظاهرها التعارض والله أعلم [100].
2 - حديث سعيد بن عبيد الطائي وعباية عن رافع بن خديج وفيهما توجيه الأيمان إلى اليهود لعدم وجود البينة مع الأنصار وليس في واحد منهما طلب الأيمان من المدعين عند عدم وجود البينة. وقد أجاب الجمهور عن هذين الحديثين بأن عدم ذكر طلب الأيمان من المدعين عند تعذر البينة سببه اختصار الرواة أو نسيانهم شيئاً من أطراف القصة فروى كل ما تذكره ، والواجب في مثل ذلك الجمع بين أطراف القصة التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة، ويؤيد ذلك أن رافع ابن خديج وسهل بن أبي حثمة ذكرا هذه القصة مفصلة بلفظ واحد وفيها طلب الأيمان من المدعين خمسين يميناً فإذا حلفوا سلم لهم المحلوف عليه [101].
3 - أجاب الجمهور على رأي أبي قلابة بما يلي :
أ – أن الحلف من الأولياء على شخص معين أنه هو الذي قتل لا يجوز عند القائلين بالقود إلا إذا ثبت لديهم بالقرائن والأمارات أنه هو الذي قتل كشهادة النساء أو الصبيان أو الكفار عليه بمباشرة القتل ، فإذا اطمأنوا لذلك جاز لهم الحلف خمسين يميناً على أنه هو القاتل ليقتصوا منه ، فيثبت القصاص باللوث والأيمان الخمسين . أما إذا لم يكن هناك شواهد وأمارات على ما يثبت القتل على رجل بعينه فلا يجوز للأولياء الحلف عليه لأنه محض الكذب وهو لا يجوز في دين الله [102].
ب- وأما استدلال أبي قلابة بترك القود بالقسامة لحديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا .... "، فقد قال فيه الحافظ ابن حجر : " لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل يشرع إلا في الثلاث لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة ، وإنما النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك " [103].
جـ- أن أبا قلابة من التابعين ولم يذكر من حدثه بالحديث على هذا الوجه فكان الإسناد منقطعاً ، ولأن رواية الحديث على هذا الوجه يخالف الروايات الصحيحة المتصلة فلا تترك بحديث منقطع . وأما رأي أبي قلابة واجتهاد عبد الملك فلا ترد به السنن الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - والتي عمل بها علماء المدينة من الصحابة والتابعين ، ثم أن حديث أبي قلابة يفيد أن اليهود إذا حلفوا لا تلزمهم الدية ، ويفيد رد الأيمان على المدعين ، والحنفية لا يقولون بهما[104].
4 - رواية سعيد بن عبيد والدليل المأخوذ منها : نوقش بأن هذه الرواية مختصرة ، ففي رواية يحي بن سعيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على أولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يميناً على شخص معين من اليهود أنه هو الذين قتله ويسلمه إليهم برمته ليقتصوا منه فأبوا ؛ لأنهم ما شهدوا ولا حضروا فعرض عليهم أن يحلف لهم اليهود خمسين يميناً أنهم ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً وبرؤوا من دمه فأبوا لأن اليهود لا يوثق بأيمانهم لجراءتهم على الكذب ، فإباء الأنصار عن أن يحلفوا ألغى الحكم بالقصاص وإباؤهم أن يحلف لهم اليهود ألغى الحكم عليهم بالدية عند النكول فدفع صلى الله عليه وسلم ديته من عنده لئلا يهدر دمه [105].
5 - تعقّب الجمهور أثر الشعبي عن عمر - رضي الله عنه - فقالوا :" إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور والحارث غير مقبول" [106].
6 - ردّ الجمهور حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتيل الذي وجد بين حيين ، بأن سنده ضعيف لأنه بلغه عنه أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد فيوهم الناس أنه "الخدري" وهذا من تلك الأحاديث . وقال عنه في التقريب : صدوق يخطئ كثيراً كان شيعياً مدلساً [107].
الخاتمة
من أهم النتائج :
- بيان اهتمام الشريعة الإسلامية لما فيه استقرار المجتمع وأمنه وسلامته ، وذلك من خلال تشريع القسامة حفظاً للدماء وصيانتها من الهدر ، وبذلك يتجلّى للمسلم عظمة هذا الدين الخاتم لما سبقه من الأديان .
- ومن النتائج التي توصّل إليها البحث :
- التعريف بالقسامة والمقصود منها : وهو عبارة عن الأيمان التي يحلفها أولياء القتيل لإثبات القتل على القاتل ، بينما يرى الحنفية أنها الأيمان التي يحلفها المدعى عليه – عليهم – لنفي تهمة القتل .
- توضيح الحكمة من مشروعية القسامة : وذلك خفظاً للدماء وصيانتها حتى لا يجترئ أحد على الإقدام على القتل ويعلم أن هناك من سيحاسبه .
- اختلف الفقهاء في شرعية القسامة ، والراجح في هذه المسألة هو القول بمشروعيتها وذلك لضعف أدلة المانعين ، وقد ورد الرد على أدلتهم في ثنايا البحث .
- يرى الأئمة مالك والشافعي وأحمد أن القسامة شرعت لإثبات الجريمة ، بينما يرى الإمام أبو حنيفة أنها شرعت لنفي الجريمة – الجناية - .
- هناك شروط للقسامة متفق عليها بين فقهاء المذاهب الأربعة ، وأخرى مختلف فيها
- يبدأ المدعون بقسم خمسين أيماناً ، فإن نكل أحد المدعين استحلف المدعى عليهم خمسين يميناً وبرئ . أما الأحناف فإنهم يرون ابتداء المدعى عليهم بحلف خمسين يميناً لنفي تهمة القتل .
- أما إذا نكل المدعى عليه – عليهم – فللفقهاء أقوال :
- حلف المدعى خمسين يميناً وبرئ ، وهو قول المالكية .
- حلف ولاة الدم خمسين يميناً واستحقوا الدية إن كانت عمداً , وهو قول الشافعية .
- تلزم المدعى عليهم الدية ، وهو الراجح في المذهب الحنبلي .
- يحبس المدعى عليهم لإيفاء الأيمان ، وهو رأي الأحناف .
- يثبت بالقسامة القود عند الفقهاء إذا كان القتل خطأً .
- اختلف الفقهاء إذا كان القتل عمداً فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود ، ومنهم من ذهب إلى أنها توجب الدية ، والراجح في هذه المسألة وجوب القود في القسامة